الاثنين، يوليو 30، 2007

سواق الأوتوبيس الخجول!


عبد المنعم الحسين جريدة الحياة - 30/07/07//
رحلة ممتدة متكررة تتوقف فقط في نقاط التوقف لتحميل ركاب وإنزال آخرين
وتمضي إلى سكة النهاية... خلف مقاود تلك الحافلات الكبيرة التي تنفث
الدخان وتزمجر بضجيجها بقوة، يجلس سائقون محترفون مهرة يستمتعون أحياناً
كثيرة بقدراتهم في المرور بين الحارات الضيقة، أو الرجوع للخلف في أماكن
مزدحمة، أو الالتفاف الانعكاسي السريع مطوحاً برؤوس ركابه، وشاداً لأعصاب
المارة والمتفرجين، وهم يشاهدون تلك الحافلة الكبيرة التي تلتف بسرعة
وتكاد تحطم السيارات والمباني، لكنها مسافة سنتيمترات فارقة يجيد حسابها
أولئك السائقون!
تجري مع أولئك السائقين مواقف مختلفة، وغالباً ما يكونون من نوع كثيري
الكلام وأصوات مرتفعة وأعصاب منفلتة، بشوارب كثة وأجسام ضخمة، يدخنون
بشراهة، ولهم ذوق خاص في سماع الأغاني القديمة من أغاني السّت
والعندليب... نوعيتهم في الغالب لا تطمئن الركاب، ما حدا بشركات النقل
وضع شروط واحترازات كثيرة على المتقدمين للعمل كسائقي حافلات مثل
التزكيات والسيرة الحسنة... وأن يتجاوز مرحلة معينة من العمر واصطحاب
الزوجة معه في الحافلة طيلة رحلة السير، خوفاً من أخطاء وتجاوزات أقلها
«البصبصة»!
لكن في برلين عاصمة ألمانيا الاتحادية كان هناك سائق مختلف ومن نوع نادر
وغير متوقع، إذ استقلت الفتاة «ديبورا سي» حافلته في رحلة غير معلومة،
بتلك الملابس غير المحتشمة والمثيرة التي كانت تلبسها، بحيث أنها استفزت
أعصاب السائق وأربكت قيادته طيلة الرحلة، خصوصاً إذا وجه بصره إلى
المرآة، ما أوقع السائق في حرج مع تلك «الزبونة» التي تسمح لها القوانين
هناك بلبس ما تشاء، وأن ذلك حق من حقوقها كإنسانة تتصرف بمزاجها، ولا
تعبأ بمشاعر الآخرين، أو بمدى الإرباك الشديد الذي تسببه لسائق الحافلة،
حين تقع عيناه عفواً أو عمداً على قطعة مكشوفة من هذه الجهة أو تلك!
السائق واجه اختباراً أوقعه في أزمة بمجرد ركوب تلك الفتاة العشرينية
الحافلة، واختيارها مقعداً استراتيجياً بالنسبة لمرآة السائق الكبيرة،
فأصيب بارتباك في قيادة تحتاج منه يقظة كاملة للطريق، لا تحتمل منه أي
لحظة استراق نظرة لديبورا التي لعبت بأعصابه، فلم تحتمل أعصابه ما يرى
من عري بعض أعضاء جسد ديبورا، ما أجبره على أن يطلب منها بصريح العبارة
وبصياح عالٍ أن تغير مكانها لأن ملابسها غير المحتشمة قد تتسبب له
وللركاب في كارثة!
لكن، ربما كانت الفتاة تمارس مع السائق والركاب لعبة إثارة الأعصاب،
فغيرت موقعها لكن لمكان أكثر استراتيجية بالنسبة لمرآة السائق ما أزعجه
بشدة، فألح عليها مرة أخرى أن تغير المكان والجلوس في آخر الحافلة، لأن
ملابسها غير المحتشمة لا تسمح له بقيادة آمنة، وهدد بإنزالها من الحافلة.
الرحلة امتدت والفتاة لم تبدِ استجابة جادة لطلبات السائق الخجول، ولم
تكترث بها، ما أدى به للتوقف بالحافلة، ورفض أن يستمر في قيادتها إلا بعد
نزول تلك الفتاة المربكة... نزلت ديبورا مكسورة الخاطر غاضبة حانقة تحاول
مسح دموعها بشيء من الخيوط القليلة التي تغطي جسمها، وتوجهت شاكية الى
السائق «قليل الذوق وقليل الأدب والرجعي والمتأخر وغير المتحضر والذي
ربما هو ألماني مشوب بالأصولية»، وشكته عند الشركة التي يعمل بها
وللجريدة التي تبرعت بنشر صورها بملابسها سبب المشكلة، لكن الجميل جداً
هو أن الشركة لما نظرت في الموضوع وملابساته، ولم توجه أي لوم للسائق
الخجول.
شيء جميل صراحة تصرف السائق في ظروف عمل كهذه، ومع راكبات لا يبالين
بالكوارث التي قد يتسببن فيها بسبب عدم مراعاتهن لمشاعر الآخرين، والأجمل
من ذلك تفهم الشركة التي شاركت سائق حافلتها رفضه لكل الملابس أو الأغطية
غير المحتشمة التي تلفت النظر وتتسبب في حوادث سير، مثل «العبايات»
المزركشة والمطرزة والفراشة والشبح والسترتش، ومن مثل هذه المسميات،
وأغطية ليست للستر وإنما للزينة، ولفت النظر بمكياج سهرة وكحل كامل، ما
تلفت أنظار السائقين والمارة فتتحول أبصارهم عن الطريق مما يحتمل معه
وقوع الحوادث والكوارث.
فلنرفض سلوك «ديبورا سي» وسلوك، وكل من لا تبالي بمشاعر وحقوق الآخرين مثلها